يوميّات وخواطر

حديث مقتضب عن الطِّب والشِّعر والكتابة والفن

أجلس إلى حاسوبي وأفتح صفحة بيضاء فارغة أمامي، أسمّي بالله، “رأس كل خير، وبدء كل أمر ذي بال،” وأفكِّر في موضوع لأكتب فيه. يزدحم رأسي بكل المواضيع التي أريد أن أكتب عنها وأؤجل ذلك منذ أشهر: تصوير المرض في الشّعر العربي، الانتهاكات الصّحيّة على حواجز الاحتلال الإسرائيلي، الارتفاع المخيف في نسبة الولادات القيصرية، حق المرضى في اختيار الموت… أطرد هذه الأفكار جميعاً لأؤجل الكتابة فيها بضعة أشهر أخرى وأقرر أن أكتب يوميات عن حادثة شهدتها في المشفى. 

يزدحم رأسي من جديد: أأكتب عن الولادة الطّبيعية الأولى التي حضرتها وكل ما جال في بالي من أفكارٍ حينها؟ أم عن غسيل الموتى في المشفى؟ أم عن تشريح الجثة التي حضرتها؟ أم عن المرضى المتضررين من الزلزال والذين قضينا عدة أشهر نستمع إليهم ونعاينهم في المشفى؟ أأكتب عن هذا المريض أم تلك العملية أم هذه الطبيبة أم ذلك التصرف؟! يزدحم رأسي بالأفكار مرة أخرى. ويخطر في بالي المثل الشامي الذي يقول: “قمنا من تحت الدلف لتحت المزراب” فقد هربت من مأزق كتابة مقال طبي (الدلف) لأقع في مأزق لا يقل صعوبة وهو كتابة شيء من اليوميات (المزراب)!

في النِّهاية، قررتُ ألا أكتب لا عن هذا ولا عن ذاك، لأكتب عن أهمية كتابتنا، كطلاب وعاملين في الحقل الصحي يومياتنا ومشاهداتنا في المشفى، أهمية ألا نتجاهل ما نشاهده في المشفى لمجرد اعتيادنا عليه، أهمية ألا ننسى عظمة ومعجزة الشفاء والولادة والطب، أهمية ألا نستخف بالألم والمرض واليأس، لمجرد أننا نشاهده كلّ يوم!

لطالما اعتبر الطب فنًا من الفنون، ومن هنا جاء الحديث عن “فن الطب”. فالطّب ليس علمًا مجردًا كالأحياء أو الكيمياء أو الرياضيات، والأطباء كالكتّاب والرّسّامين والشعراء، يعتمدون على التدريب والخبرة جنبًا إلى جنب مع الحدس والإدراك لإنجاز عملهم. ثمَّ إن مجيء المرضى إلى الطبيب في أضعف لحظات حياتهم، ومشاهدة الأطباء لهذه اللحظات الإنسانية والحسّاسة كالولادة والمرض والوفاة والألم يضع الأطباء في وضع فريد يؤهلهم للتعبير عن إنسانيتنا ومحدوديتنا بشكل مذهل . 

ومن هنا يقول و. سومرست موغام “لا أعرف أي تدريب أفضل لكاتب من قضاء بعض السَّنوات في مهنة الطّب،” ومن هنا كان أبولو الإله اليوناني للشفاء والشّعر في آنٍ معًا، و من هنا لا نستغرب أن يكون تاريخ الطّب مليئًا بالأطباء الذين ألفّوا الروايات وكتبوا الشعر واستطاعوا أن يصوروا الدراما الإنسانية المجرّدّة في شعرهم وكتاباتهم. ومن أحسن ليعبّر عن ذلك من الذي يقضي كل ساعة من ساعات عمله لسنوات عديدة شاهدًا على ولادة الحياة وانتهائها، وعلى شفاء المرض وتفاقمه..؟

أكتب كل هذا وأتذكَّر والدي، يرى المعجزة في كلِّ حكاية أحكيها له عن المشفى ويسألني بلا توقف إن كنت قد كتبت عنها في مذكراتي، لأجاوبه: “بيي، بدي اكتب كل شي؟ إذا بدي اكتب كل هالأشياء ما بخلص.” لكنَّ هذا وعد علني بأن أكتب أكثر عن المشفى، عن الحياة والموت والألم والراحة والشفاء والمرض الذي أشاهده كل يوم، دون أن أسمح لنفسي بأن أعتاده ودون أن أقلل من أهميته.

أختم بما قاله الطبيب والشاعر جون ستون: “كتابة الشعر جعلتني طبيباً أفضل.” أليس الهدف من كل دراستنا وتدريبنا أن نصبح أطباء يفهمون مرضاهم أكثر ويقدمون رعاية أفضل؟ هل نتعاهد، يا أصدقاء مِهاد، على أن نكتب أكثر عن المعجزات التي نشهدها نحن دون غيرنا من النَّاس كل يوم؟

بقلم لين الخطيب

طالبة طب في جامعة Hacettepe، تركيّا

المصادر:

Jones, A. H. (1997). Literature and medicine: physician-poets.

Oldfield, B., & Smal, L. (2017). The Right to Write About Patients. Retrieved from Hopkins Medicine: https://www.hopkinsmedicine.org/news/publications/hopkins_medicine_magazine/extras/winter-2017/the-right-to-write-about-patients

رأيان حول “حديث مقتضب عن الطِّب والشِّعر والكتابة والفن”

    1. مرحباً، شكراً لقراءتك ولِتعليقك 🌸

      مصطلح “فن الطّب” أو The Art of Medicine قديم الاستخدام في الطب، ورد في النَّص الأصلي لقسم أبقراط، وهو يُستخدم اليوم للإشارة إلى أن الطّب، وإن كان يحتوي على جانب علمي، ليس علماً مطلقاً كالرياضيات أو الكيمياء أو الفيزياء. سأرفق هنا عناوين ثلاث مقالات حول الموضوع، قد تجدُ فيها الغني من المعلومات.

      N. Pimlott and I. A. Cameron, “Art of medicine,” Canadian Family Physicians, 2015.
      G. Remuzzi and B. Simini, “Medicine and art: one culture?,” International Society of Nephrology, 2009.

      D. Riesman, “The Art of Medicine,” Science.

      إعجاب

أضف تعليق